امن مستقبلك
إن الناس يكدّون ليل نهار، وقد يلتحقون بأكثر من عملٍ
ويُضحّون بأوقات راحتهم وساعات نومهم لكي يؤمِّنوا لأنفسهم وأولادهم حياةً كريمةً في مستقبلهم، وهم يدخلون مشروعات ويتاجرون ويتحملون المشقة والمعاناة لكي يؤمِّنوا حياة كريمة لأنفسهم في كِبرهم ولأولادهم من بعدهم.
ولن يُتهم أحدُهم بالجنون إذا أنفق شبابه وصحّته في كدِّه هذا
لكي يَطمئنَّ على مستقبله ومستقبل أبنائه.
وهم يدّخرون المال اليوم حتى يجدوه غدًا عندما يحتاجون
ولا يألون جهدًا ولا يدّخرون وقتًا ولا يتركون سبيلًا للوصول إلى المال إلا سلَكوه مهما كانت المشقة والتعب، حتى إن بعضهم لا يبالي أيَّ الطرق يسلك، وأيَّ الرزق يكسب، وأيَّ الكسب يترك ويزهد،
ولا يشغل باله أمِن حلالٍ أو حرامٍ ينفق، ومن طيبٍ أو خبيثٍ يدّخر لنفسه وولده. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون لهما ثالث ولا يملأ فاه ابن آدم
إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
فإن كان الأمر على هذا النحو، وكان ادخار اليوم أمانًا للمستقبل للشخص وولده في تلك الحياة القصيرة التي لا يعلم أحدٌ متى تنتهي
إلا الله، ولا يملك أحدٌ أن يردّ القضاء إذا انقضى الأجل فإنه من باب أولى أن يكدّ الإنسان ويشتغل ولا يضيع فرصةً أو يدّخر جهدًا في تأمين حياته هو وذريته في الآخرة التي هي حياة طويلةٌ أبديةٌ لا نهاية لها، ونعيمها دائمٌ لا انقطاع له، وعذابها دائمٌ لا فكاكَ أو خلاصَ منه
فليست هناك فرصة للعمل والادخار ولا فرصة لتأمين المستقبل
في الآخرة إلا في تلك الحياة التي نحياها، والتي مهما طالت قصيرةٌ،
ومهما تمتَّعنا بجمالها فهو زائلٌ لا محالة.
كل ما نتمتع به من جماله هو حتما عابر.
يقول تعالى:
(وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولًا سديدًا) سورة النساء الآية 9،
لا بد أن يتأكد أنه حلالٌ طيبٌ لا شبهةَ فيه ولا مكانَ فيه لفلسٍ من حرامٍ، والله عز وجل لم يحرِّم علينا السعي للغنى ولكسب المال الحلال،
ولم يحرِّم علينا الاستمتاع بطيبات ومُتع الحياة الدنيا ما دامت حلالًا
(ويحلّ لهم الطيبات ويحرِّم عليهم الخبائث) الأعراف 157
بل على العكس أحلَّ لنا مُتع الدنيا كلها ما دامت حلالًا. يقول الله عز وجل:
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) الأعراف 32
ولكنه حرَّم علينا المال الخبيث الذي جاء من طريقٍ حرامٍ مخالفٍ لشرع الله، فالقرش الحرام يأكل معه عشرةً من الحلال ويمحق بركة الرزق كله.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل جسدٍ نبت من سُحتٍ فالنار أَوْلى به". صحيح الجامع، فما بالُ من غُذِّي بالحرام وتَرعرع على الحرام ولا يدرك أن من يزرع الحنظل لا يجني إلا العلقم، وقد يرتع الرجل في الدنيا ينهب الحرام نهبًا ويمتلئ جشعًا وشرهًا للمال حتى يستمرئ أكل مال الضعيف واليتيم والمريض وذا الحاجة، ولا يترك مالًا خبيثًا إلا أكله، ولا رشوةً إلا سعى إليها، ولا رِبا إلا أسرع إليه.
يفعل ذلك كله ولا يخشى الله ويبرر لنفسه بأنه يؤمِّن لنفسه
وولدِه السعادة والحياة، حتى إذا انقضى الأجل لم ينفعه مالُه وولده الذين يتركونه خلفهم ويمضون بنفس النهم للمال لا يهمّ كلَّ واحدٍ منهم إلا نفسُه وميراثه مثل أبيهم تمامًا يُسرفون ويضيِّعون إرثه من المال فلا يبقى المال ولا يعود العمر لإصلاح ما فات،
ولا تؤمَّن حياة الأبناء،
فمن مُحقت بَركة رزقه فلا بَركةَ في ماله ولا صحّته ولا عياله.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رُبّ أشعثَ أغبرٍ يمدّ يديه إلى السماء، ومسكنُه حرام، وملبسُه حرام، ومأكلُه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب له". وفي رواية مسلم
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:
(يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إني بما تعملون عليم) المؤمنون 51،
و قال:
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) البقرة 172،
يطيل السفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يده إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك). صحيح مسلم
الخير كلّ الخير أن يترك العبد المال الطيب الحلال الذي
لا يشقى هو به في قبره ويفتضح به يوم يقوم الأشهاد،
ولا يشقى به بَنُوه من بعده في الدنيا فإن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا.
وإن كان كل إنسانٍ لا بد أن يدَّخر فليدَّخرْ لدنياه ولآخرته
الكسب الحلال والصدقة النقية التي لا شهرةَ فيها ولا مَنَّ ولا أذى لخلق الله
(يمحق الله الربا ويُربى الصدقات) سورة البقرة الآية 276
فالصدقة الطيبة (كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) سورة البقرة الآية 261، والإنسان يعيش في ظل صدقته، ويلقى الله في ظل صدقته، ويبارك له في رزقه ويتضاعف بالصدقة، وترتفع درجاته في الجنة بالصدقة، ويبارك في صحته وعمره بالصدقة، وينجو من العذاب بالصدقة، ويبارك له في ذريته في حياته وبعد مماته بالصدقة، ويخلد في جنان الخلد بالصدقة، وينجِّيه الله وولده من كل سوءٍ وبلاءٍ بالصدقة،
يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم
لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته،
ومن فرَّج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة". حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان، فما أيسر أن ينال الإنسان سعادة الدنيا والآخرة ويأمن على نفسه وذريته.